نـــورهـ ... //
في يوم من أيام الشتاء الباردة .. بعد أن أسدل الليل أستاره .. جلست في غرفتي تحت الأضواء الهادئة مرتدية جواربي الصوفية وبيجامتي الحمراء المشعة .. أقلب دفاتري وصندوق ذكريات ٍ حوى كل ما بقيّ لي من ذكرى لـهـــا ..
لم تكن مجرد صديقة .. بل الأخت التي تقاسمت معها كل شي .... إشتركنا في المراحل الدراسية وفصولها منذ الروضة .. وتقاسمنا الأحلام الوردية والطموحات .. وإجتمعنا بالود الصافي والحب العذب ..
عرفتها منذ صغري .. و لم أميز تقاسيم الحزن التي كست ملامحها ورسمت عليها خطوط دقيقة عجزت تعابير الفرح والإبتسامة إلغاؤها أو حتى إخفاؤها ..
نـــورهـ ... صاحبة الوجه الجميل الأشبه بفقلقة القمر ذات الإبتسامة العذبة التي تأسر الألباب .. تحمل داخلها بقايا حطام ناتج عن قسوة أم وغفلة أب ..
" أنا مالي ذنب .. والله مالي ذنب .. فبالها زواجه عاجبني أو وضعي أنا وأخواني مريحني .. والله مالي ذنب " ..
هذه جملة نـــورهـ ...التي تكررت على مسامعي وهي تبث شكواها ودموعها تتبلل بندى عينيها في صباحنا المدرسي .. ولتكن كلمات المواساة البسيطة مني غير كافية لإزالة الحزن الذي كساها ..
نـــورهـ ... ولأنها أكبر أخوتها كانت جبهة الحرب التي تمارس عليها والدتها التي تعاني من مشاكل نفسية كافة أنواع الممارسات التعذيبية من ضرب وإهانات وقسوة المعاملة رغم إن كل ذنبها إنها ولدت لتكون أول من يحمل إسم والدها ..
لم تفكر والدتها يوما ً .. بإن مرارة زواج الأب تجرعتها نـــورهـ و إخوتها بنفس المرارة التي تجرعتها هي أيضا ً.. فبُعد والدهم وغيابه عنهم كان له بالغ الأثر في تحمل نـــورهـ للمسئولية رغم صغر سنها ومع وجود أبيها و أمها على قيد الحياة ..
" يـــا رب يموت .. وأفتك وأرتاح .. عشان أكون صدق يتيمة بدل ما أنا يتيمة وهو حي ّ "
وصول نـــورهـ إلى هذه المرحلة من الحزن الذي يجعلها تدعو على والدها بالزوال كان له مبرراته لمن في مثل سنها .. فـ نـــورهـ لم تتجاوز العقد الثاني من العمر وكانت هي من تدفع ثمن زواج والدها بإبتعاده الكامل عنها وعن إخوتها الذين في سن يكونون أحوج ما يكونون لأب يحتوي طاقاتهم و يوجههم في ظل وجود أم غير متوازنة نفسيا ً وقاسية على نـــورهـ لعدم مقدرتها على إظهار كم غضبها الهائل من والدها الذي هز صورتها في المجتمع و "تزوج عليها".. رغم إن نـــورهـ لم يكن لها من زواج أبيها إلا العيش تحت وطئة قساوة الأم و تحمل أخطاء الغير ..
وفي أحد الأيام تفاجئت بزيارة نـــورهـ المنهارة تماما ً وليس على لسانها حين رأتني إلا جملة واحدة ......
" كانت على مرت ملك .. كانت على مرت ملك "
لأُصدم بالخبر الذي تلى جملتها المعبئة بالحزن و زفرات الألم ودموع الحسرة .. والــد نـــورهـ مصاب بسرطان الدم المتفشي بكامل جسده ..
مرض مشعل والد نـــورهـ أشبه ما يكون بالصفعة التي أدت إلى اليقظة .. ليلتفلت إلى أولاده الذين أهملهم دون رعاية منه بزواجه الثاني .. وليكون مرضه السبب في محاولة التقرب منهم و ممارسته لدوره الطبيعي كأب و إستغلاله للوقت الذي بقيّ له بعد علمه بإستحالة الشفاء من الناحية الطبية ..
ندم نـــورهـ الشديد و حزنها الذي يملأ نفسها بدى معكوسا ًَ على وجهها و واضحا ً في تأثيره على دراستها .. فلم تكن نـــورهـ مهملة لدروسها رغم صعوبة ظروفها التي قاستها .. إلا إن شعورك بقرب فـقـدك لـعزيز يكون له الأثر البليغ على وحشة الروح و رعشة الجسد و تشتت الفكر وهذا ما كانت عليه نـــورهـ ..
فمن ذاق سكر الحنان وحلاوة دفئ الإحتواء لا يكون له إلا الشغف للحصول على المزيد .. فحنان الأم و الأب أمر لا يُمل منه ولا يُشبع ..
" نوره والله لو دروا الإدارة معاج تلفون .. والله يفصلونج "
" بالطقاق .. أهم شي أبوي .. ما أقدر أقعد سبع ساعات مو مطمنة عليه .. كيفهم "
سفر والد نـــورهـ للخارج برفقة عمها للعلاج كان فسحة الأمل التي طلت على حياتها لتعيد لها جزء من نضارة الحياة التي تسللت بعيدا ً عنها منذ مرض والدها و بقربه منهم .. و ليرسم الأمل شبح إبتسامة ليتها تكتمل .. إلا أن السعادة لم تكن يوما ً نصيبا ً لـ نـــورهـ ..
رغم أن مرض مشعل كان له الأثر الإيجابي على حياة نـــورهـ التي أصبحت مشرقة بوجود والدها الذي حاول إستغلال بقايا أيامه حيا ً مع أبناؤه الذين لطالما قصّر في حقهم وحق أمهاتهم .. إلا أن الأيام السعيدة تمر سريعا ً وكعادتها .. قــصـــيــرة ..
تـــوفـــي ّ مـشــعــل .. ليترك نـــورهـ بين لوعة اليتم وحراة سعير الضمير و قسوة الأم التي ازدادت بفقدها الكامل لزوجها ووالد أطفالها ..
و لتبدأ نـــورهـ مرحلة جديدة ومسيرة حياه تحت عنوان " يـــارب جعل ما يدور الحول إلا وأنا لاحقة أبوي " ..
إلا أن حلاوة الأيام عادت لتطل على نـــورهـ في أواخر صيف 2007 م لترتبط بـ عبدالله الذي كان مثالا ً حيا ً لقوله تعالى { الطيبون للطيبات } فمن تملك حسن الأخلاق ودماثة الخلق والصبر و تحمل ظروف الوالدين لابد أن يكون لها نصيب طيب مذخور من الباري عزوجل ..
وليأتي ديسمبر العام نفسة قارسا ً كلهيب مجمد .. صاعقا ً في برودته .. ولتكن ليلة الثاني والعشرون منه .. ليلة لا تــُنــســى ..
نـــورهـ توسدت ساعدها وهي مستلقية على أحد كنبات غرفة المعيشة وهي تستمع لأحاديث العريفي على إحدى القنوات التلفزيونية و لتحضن نفسها محاولة بث الدفئ لروحها و لجسدها من برودة الجو المحيط بها لـتغفو بعد أن تسلل الدفئ ببطء إلى جسدها الغض .. الذي سكن في مكانه لتسكن روحها معه إلى الأبد ..
تـمـاس كـهـربـائـي .. مـدفـئـة الـصـالـة .. حريـق ذو أدخـنـه مـتـكـاثـفـة يـلـف الأجـواء الـمـحيـطـة .. إخـتـنـاق نـــورهـ ..
كل هذه .. أحداث حصلت وكانت نتيجتها واحـــــدة .. إحـتـراق منزل نـــورهـ .. ليحترق معه فؤادي على حبيبتي و صديقة و رفيقة مشواري .. نـــورهـ ..
نورة التي لحقت والدها بعد عام من وفاته بعد أن عاشت جزء من السعادة التي إعتَبرتُها زكاة حياة الحزن التي قاستها .. عاشتها مع عبدالله .. الرجل الذي إقتحم حياتها بعد أن بلغت الثامنة عشرة من العمر .. الرجل الذي كتبت زوجة له ومسئولة منه .. الرجل الذي أدخل المسرة و أشرقت انوار حياتها بإحتواءه لها .. إلا أن هذا لم يدم طويلا ً لتستجاب دعوتها .. و لتنتقل روحا الطاهرة إلى بارئها لتجاور قبر والدها .. لأفقد أنا الأخت والصديقة.. و لأظل أردد .. كـــانــت عــلــى مـــرت مــلــك يــا نـــورهـ ....
نـــورهـ .. روحك الطاهرة لا تزال حولي .. //
:
:
:
نـــورهـ ..
ليست شخصية وهمية .. أو معاناة من صنع الفكر ..
إنما هي واقع عاشته إحدى صديقاتها بنفس وقع الألم الذي قاسته نــــورهـ ..
و لذكرى وفاتها الأولى .. كانت تلك المعاناة بين أيديكم .. فلا تحرموها من صالح دعاؤكم ..
و كل التعازي الحارة و دعواتنا بالغفران والرحمة موصولة لـ ســـانـــدي بـــل .. صديقة نــــورهـ ..
رحم الله نــــورهـ وأسكنها فسيح جناته و جمعها مع أحب الخلق إليه محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام ..