[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإن كثيرا من الناس يهتم لمرض البدن ويحرص على السلامة ويسعى جاهدا في تحقيق الشفاء وينفق في ذلك كل ما يملك ولا حرج في ذلك شرعا بل مأمور العبد بذلك كما جاء في النصوص. لكن الخلل يكمن في عدم اهتمامه مطلقا بمرض قلبه وعلله وأدوائه فهو في غفلة رهيبة عن هذا الأمر ومنهم من يشعر بها مع إعراضه ومنهم من لا يشعر بها لخفائها. فالمصيبة أن كثيرا من الناس لا يحسون بمرض قلوبهم ولا يلمسون أثر ذلك إلا إذا استولى وأحاط بهم وحينئذ لا ينفع الندم والعتب.
إن من أعظم البلاء على العبد أن يكون المرض متغلغلا في قلبه مسيطرا على جوارحه وهو لا يشعر بذلك ولا يكترث لأن قلبه استمرأ ذلك واعتاد عليه فأصبح لا ينزجر بزاجر ولا ينتفع بموعظة ولا يذوق حلاوة الإيمان. وقد ذم الله الكفار بعمى قلوبهم بقوله: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
وقد ذم الله مرض القلوب في كتابه في عدة مواضع وكان هذا في سياق ذم مسلك المنافقين وأهل الشهوات والفساد كقوله تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ). وقوله تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ). وبين النبي صلى الله عليه وسلم خطر مرض القلب في قوله: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)). رواه الترمذي.
إن لمرض القلب واعتلاله أثر بين على الجوارح والوقوع في الأقوال والأفعال الذميمة منشأه القلب المريض الذي ضعف فيه نور الإيمان وحلاوة العمل الصالح وأصابه الوهن عن إتباع الشرع.
وأمراض القلوب قسمان:
1- مرض الشبهات: وهو كل داء يشتمل على شبهة وهو على أنواع كثيرة:
(1) النفاق: وهو إظهار الخير وإبطان الشر وهو قسمان أكبر اعتقادي وأصغر عملي من التخلق بأخلاق المنافقين. وقد ذم الشارع التخلق بأخلاق المنافقين وأفعالهم لأنه يفضي بالإنسان إلى الوقوع في النفاق الأكبر.
(2) الشك: وهو التردد في ثبوت الحق الذي دل عليه الشرع من تفرد الله ووحدانيته في الربوبية والأسماء والصفات والألوهية وغير ذلك من القطعيات.
(3) سوء الظن: بأن يسيء العبد الظن بريه وأفعاله وأقداره وآياته ورسله وأولياءه.
(4) الرياء: بأن يظهر العبد عمل الآخرة مراءاة للناس وطمعا في الدنيا.
(5) الوساوس: بأن تستولي وساوس الكفر والشك والإلحاد على قلب العبد وفكره ويستجيب لها.
(6) موالاة الكفار: بأن يؤثر العبد محبة الكفار وموالاتهم ونصرتهم وإحسان الظن بهم والعياذ بالله.
(7) فتنة التكفير والتبديع: بأن يغلو العبد في تكفير المسلمين وتبديعهم لأدنى شبهة ويولع في الكلام في هذه المسائل.
2- مرض الشهوات: وهو كل داء يشتمل على شهوة وهو على أنواع:
(1) حب الرئاسة: بأن يفتن العبد بحب الرئاسة والقيادة وتستشرف نفسه لذلك فيهلك.
(2) حب الشهرة: بأن يفتن العبد ويسعى بكل ما يملك في نيل الشهرة في الأعمال الخيرية.
(3) حب الدنيا: بأن يفتن العبد بحب الدنيا وتكون همه ومبلغ علمه وغاية مراده.
(4) فتنة النساء: بأن تستولي على القلب الفتنة بحب النساء والجنس ويوظف العبد كل طاقاته في هذا السبيل من غير وقوف عند حدود الشرع.
(5) حب الصور: بأن يفتن العبد بحب الصور الجميلة وعشقها والهيام بها.
(6) شهوة الكبر: بأن يصاب القلب بشهوة الترفع والتكبر على عباد الله.
(7) شهوة الحسد: بأن يمتلأ القلب بمرض تمني زوال النعمة من الغير وحب التفوق على الآخرين في الدنيا.
(
شهوة الظلم: بأن يستلذ القلب ويستمتع بإيقاع الظلم بجميع صوره على الآخرين من سب وشتم وغيبة ونميمة وإفساد واستباحة للأموال المعصومة.
وإن مرض الشبهات أخطر بكثير على العبد من مرض الشهوات لأنه قد يفضي إلى الكفر والردة وليس من السهولة التوبة منه والتخلص من تأثيره ولذلك كثير من أصحابه ينافحون ويعتقدون أنهم على صواب خلافا لمرض الشهوة الذي يدرك العبد غالبا أنه مبتلى به وتنفع معه المواعظ والتذكير وقد يتخلص منه.
والواجب على المؤمن أن يشخص قلبه ويطهر قلبه ويغسل باطنه من جميع هذه الأمراض بزيادة الإيمان والإكثار من العمل الصالح وطلب الهداية وصدق التوجه والبعد عن مواطن الفتنة وصحبة أرباب القلوب السليمة وإغلاق أبواب الشرور والفتنة عن قلبه. ومرض الشبهات شفاؤه يكون بالعلم والحجة ومرض الشهوات شفاؤه يكون بالمواعظ والإيمانيات.
وإن الإكثار من سماع القرآن وسماع الحديث يطهر القلب من الأمراض ويملأه حكمة وإيمانا ونورا ويقينا لبركة كلام الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم وعظم نفعهما. قال ابن تيمية: (والقرآن شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره فيبقى القلب محبا للرشاد مبغضا للغي بعد أن كان مريدا للغي مبغضا للرشاد). وفي المقابل الإكثار من سماع الباطل والشبهات من أهل الريب والشهوات من أهل المجون يمرض القلب ويغويه ويجعله مظلما بأنواع الضلالات. وكم من تقي صالح أرداه الشيطان وأصابه في مقتل من جراء سماع شبهات أهل البدع ومجالسة الفساق.
والقلب المريض يموت وتعظم فتنته بوساوس وشبهات الشيطان لأن أساسه فاسد كما قال تعال: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). أما القلب السليم يرفض الباطل ويقاومه ولا يتأثر به ليقينه بالحق المنزل وفرقانه بين الحق والباطل.
وقد يجتمع في قلب المسلم حق وباطل ويوجد فيه نوع مرض مع صلاحه في الجملة فلا يستبعد المؤمن مع علمه وعمله أن يكون مبتلى بعلة ومرض كما ورد في النصوص وهذا يوجب على العبد الحذر الشديد وأخذ الحيطة من ذلك وعدم الاغترار والإعجاب بالعمل الصالح فإن العبرة بالخواتيم.
ولا يكاد أحد يسلم من عارض وخاطر سوء ولكن المؤمن الحق هو الذي يكثر من تعاطي الدواء ويجتهد في التزكية والإصلاح لقلبه ويجاهد نفسه في ذلك بحيث لا يستقر فيه المرض ولا يكون ملازما له ومن كان كذلك كان حريا لنجاته وسلامته لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
أما من أهمل قلبه وأعرض عن طلب الدواء عاقبه الله بالحرمان وزيادة المرض وأبعده عن روضة اليقين وساحة الرضا والاطمئنان. كما قال تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ). وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية: ( هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد وهم المنافقون والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام فزادهم الله مرضا قال: زادهم رجسا وقرأ {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم}. قال شرا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم). وقال تعالى عنهم أيضا: (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ). فالجزاء من جنس العمل ولا يظلم ربك أحدا.